-->

الأمن القضائي و الأمن القانوني ضمان لسيادة دولة القانون .

حجم خط المقالة

الأمن القضائي و الأمن القانوني ضمان لسيادة دولة القانون .

 الباحثة : مخبي كريمة.


المقدّمة:

    يستحيل تكريس مبدأ سيادة القانون دون توافر الأمن القانوني والأمن القضائي، فهما ركيزة أساسية لدولة العدل والقانون. ويتجلى هذا م خلال المنظومة التشريعية التي تسهر على بنا القواعد القانونية، والتي مهما بلغت جودتها فإنها لا تفي بالغرض الذي شُرعَت لأجله. فالتطور الذي عرفه العالم سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أدى إلى نشوء نوع من الاضطراب في حياة الفرد، الأمر الذي دفع بالدول إلى العمل على تحقيق الأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار في مختلف المجالات، كما تعمل السلطات العامة على تحقيق قدر من الثبات النسبي في العلاقات القانونية وضمان حد أدنى من استقرار المراكز القانونية.

    وقد تزايد الاهتمام بالأمن القانوني والقضائي بفعل العولمة القانونية بمختلف تطوراتها، والجزائر كجزء من هذا العالم قد واجهت تحديات وعوائق عديدة لتحقيق هذا الأمن، ومن بين أهم هذه المعوقات، المعوقات التشريعية والتعارض بين بعض القوانين أحياناً.

   وفي هذا الصدد يمكننا طرح الإشكالية التالية: فيما تتجلى مظاهر العلاقة بين سيادة القانون والأمن القانوني القضائي؟ وهل الترسانة القانونية للجزائر كافية من أجل تجسيد الأمن القانوني؟ وهل المؤسسات القضائية كفيلة بتجسيد الأمن القضائي من دون معوقات تكبح تحقيق ذلك ؟

للإجابة على الإشكالية قمنا بتقسيم هذا الموضوع إلى محورين رئيسيين، أين نتناول في:

 

المحور الأول: مفاهيم الأمن القانوني والقضائي ومفهوم مبدأ سيادة القانون وعلاقته بالأمنيين القانوني والقضائي.

وفي المحور الثاني: نتناول المعوقات التي تكبح مبدأ سيادة القانون لتحقيق دولة العدل والقانون.

 

المحور الأول: علاقة الأمنين القانوني والقضائي بمبدأ سيادة القانون.

   من أجل تحقيق هذه العلاقة بين الأمن القانوني والقضائي مع مبدأ سيادة القانون يجب التطرق لمدلول تلك المفاهيم، وعليه سوف نقسم هذا المحور إلى قسمين أساسيين، إذ نتناول أولاً ماهية كل من الأمن القانوني والقضائي وماهية مبدأ سيادة القانون، ثم نبين ثانياً العلاقة بين تلك المفاهيم مع مبدأ سيادة القانون.

أولاً: ماهية الأمنين القانوني والقضائي وسيادة القانون.

1-مفهوم الأمن القانوني :

    لم يحظى مصطلح الأمن القانوني بتعريف المشرعين له شأنه شأن العديد من المصطلحات القانونية، الأمر الذي جعل هذه المسألة تقع على عاتق الفقه والقضاء لإيجاد تعريف له، وفي ذلك ظهرت عدة اتجاهات فقهية؛

   هناك من عرّف الأمن القانوني على أنه أحد مظاهر حق الإنسان الطبيعي في الأمان، وعلى هذا الأساس يعرفه على أنه "كل ضمانة تهدف إلى تأمين حسن تنفيذ الالتزامات وتلافي عدم الوثوق بتطبيق القانون بما يؤمن حق الأفراد بالأمان". 1

   وهناك من أسس تعريفه على فكرة الثقة المشروعة، التي تعني "كل وضعية بالواقع تستشف من وضوح ودقة قواعد القانون المطبق حتى يمكن للفرد أن يعرف حقوقه وواجباته ويتخذ موقفاً على ضوء ذلك".2

   كما يعرف من خلال الأهداف التي يحققها فعرف بأنه: "عملية تستهدف توفير حالة من الاستقرار في العلاقات والمراكز القانونية من خلال إصدار تشريعات متطابقة مع الدستور و متوافقة مع مبادئ القانون الدولي غايتها إشاعة الثقة و الطمأنينة بين أطراف العلاقات القانونية سواء كانوا أشخاص القانون الخاص أو العام".3

   ولعل أكثر التعريفات لمبدأ الأمن القانوني وضوحاً وشمولاً، التعريف الذي قدمه مجلس الدولة الفرنسي في تقريره الدوري لسنة 2006، والذي جاء فيه:" مبدأ الأمن القانوني يقتضي أن يكون المواطن قادراً على تحديد ما هو مباح وما هو محظور بموجب القانون الساري دون أن يستدعي ذلك من جانبه بذل مجهودات إضافية من أجل بلوغ هذه النتيجة، ويجب أن تكون القوانين الصادرة واضحة ومفهومة ولا تخضع في الزمن لتغييرات مفرطة، وبالأخص غير متوقعة". 4

   أما عند إسقاط مدلول هذا المصطلح في المنظومة القانونية في الجزائر، إذ نجده مكرساً في كل الدساتير الجزائرية ولاسيما الدستور الحالي، وقد عبر عنه كمبدأ "الدستور فوق الجميع وهو القانون الأساسي الذي يضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية".5

   وبهذا كل القوانين تستمد مشروعيتها من الدستور والقضاء هو الضامن في التطبيق السليم لتلك القوانين لأن كل أحكامه وقراراته تمثل عنوان للحقيقة عند التطبيق السليم للقانون. وهذا ما يزرع الشعور لدى المواطن بالرضا بما جاء في القاعدة القانونية في حد ذاتها وما أعطته له من حماية وأمن في مركزه القانوني. وفي حالة الاعتداء عليه له الحق في طلب الحماية بناء على الأمن القضائي الذي يشعر به من خلال حقه المكفول باللجوء للقضاء.

2-مفهوم الأمن القضائي:

    إن مصطلح الأمن القضائي مصطلح واسع، يحمل عدة أوجه وهو ذو أبعاد نفسية واجتماعية واقتصادية، ويثير الكثير من اللبس، كما يختلف معناه من شخص لآخر بحسب صفته و موقعه و مصلحته، وهو من المفاهيم الحديثة، تناوله الفقه من خلال زاويتين، الأولى اعتبرته فرعاً من فروع الأمن يجد مصدره في القانون الطبيعي، ويختلط بمفهوم أوسع و هو الأمن القانوني مع خلاف واحد هو أن الأمن القضائي مرتبط بالنشاط القضائي حصراً، وهو بهذا المعنى يكرس الثقة في السلطة القضائية التي تعتبر المصدر الأساسي للأمن القضائي، والاطمئنان إلى ما ينتج عنها من أحكام و أعمال.

   والأمن القضائي بهذا المعنى لا تختص به جهة قضائية بعينها، وإنما يتكفل به القضاء بمختلف فروعه سواء كان قضاء عاديا أو متخصصاً.

    يعرف الأمن القضائي بأنه: "تعبير كاشف على مدى ممارسة الفرد لحريته بكافة أشكالها، كحرية التعبير، والتنقل، والشفافية في الصفقات العمومية، وحماية العمل السياسي، وتأمين مبدأ الثقة في القضاء والقضاة".6

    أما عن تعريفه الواسع فيقصد بالأمن القضائي ذلك المبدأ يعكس ثقة المتقاضي في المؤسسة القضائية، والاطمئنان لما ينتج عنها وهي بصدد قيامها بمهامها التقليدية المتمثلة في تطبيق القانون على ما يعرض عليها من وقائع وقضايا. 7

   أما المفهوم الضيق فيرتبط مضمونه بوظيفة المحاكم العليا 8 في البلاد المتمثلة أساساً في توحيد الاجتهاد القضائي، الذي يساهم في خلق القاعدة القانونية أو تفسيرها أو إيجاد حلول لقضايا لم تتناولها نصوص قانونية بذاتها.

 

3-ماهية مبدأ سيادة القانون :

   تعني سيادة القانون الالتزام بإرادة الدستور ونصوص القانون بدلاً من إرادة الحاكم في معالجة مسألة معينة، بمعنى أن الحقوق والحريات مكفولة بمبدأ سيادة القانون والمكرس في جميع نصوص الدستور والتشريعات الأخرى. 9

   كما يعرف في قاموس اكسفورد الإنجليزي على أنه " هو سلطة القانون وتأثيره على المجتمع وخاصة عندما يُنظر إليه على أنه قيد على السلوك الفردي والمؤسساتي، فهو المبدأ الذي بموجبه يخضع جميع أعضاء المجتمع على قدم المساواة للقوانين والعمليات القانونية التي يُكشف عنها علناً ".10

   ويعرفه ميثاق الأمم المتحدة و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على "يُشير مفهوم سيادة القانون إلى مبدأ للحكم يكون فيه جميع الأشخاص و المؤسسات و الكيانات والقطاعات العامة و الخاصة، بما في ذلك الدولة ذاتها، مسؤولين أمام قوانين صادرة علناً، و تطبق على المجتمع بالتساوي و يحتكم في إطارها إلى قضاء مستقل وتتفق مع القواعد والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويقضي هذا المبدأ كذلك ، اتخاذ كافة التدابير لكفالة الالتزام بمبادئ سيادة القانون وهي: المساواة أمام القانون، المساءلة أمام القانون، العدل في تطبيق القانون، الفصل بين السلطات، المشاركة في صنع القرار، اليقين القانوني و تجنب التعسف و الشفافية الإجرائية و القانونية".11

  ومن هنا يمكن استخراج بعض صور و مظاهر مبدأ سيادة القانون:

 

المساواة أمام القانون: يقصد به أن يطبق القانون على جميع المواطنين، دون تمييز أحدهم عن الآخر، ولأي سبب كان، أي عدم التفرقة بين المواطنين في تطبيق القانون عليهم، بسبب العقيدة أو اللون أو الجنس أو الأصل الاجتماعي أو اللغة او الثروة..

وهذا ما نص عليه المؤسس الدستوري في المادة 37 من دستور 2020. 12

 

المساءلة أمام القانون: تقول القاعدة القانونية أيا من كان إذا خرق القانون يتحمل مسؤولية عاقبة أعماله و يتلقى العقوبة الواجبة. تم تكريس هذه الصورة في المادة 78 من دستور 2020.  13.

 

العدل في تطبيق القانون: العدل هو أساس المجتمعات الناجحة و المتطورة وإذا طُبق القانون وُجد العدل، فالعدل هو ركيزة أساسية لدولة القانون. والدستور الجزائري كرس هذا في المادة 163 فقرة 2.  14

 

الفصل بين السلطات: يُعد مبدأ الفصل بين السلطات من أهم المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية ،فهو يهدف لسمو مبدأ القانون و يضمن عدم التداخل في المهام بين السلطات. فهو مبدأ مكرس دستورياً، حيث نص عليه المؤسس الدستوري في ديباجة الدستور بشكل صريح وأيضاً من خلال نص المادة 16 والمادة 163 فقرة1. 15

ثانياً: علاقة مبدأ سيادة القانون بالأمن القانوني والقضائي.

   العلاقة القائمة بين مبدأ سيادة القانون والأمنين  القانوني و القضائي تستنبط من متطلبات الديمقراطية وفقاً للمعايير المذكورة، وبها تقاس مدى بلوغ درجة مؤشرات الديمقراطية لأي دولة، فبعد التطرق لمفهوم تلك المصطلحات القانونية، فإنه يتجلى منها أيضاً وجود علاقة تكاملية فيما بينها من حيث المسعى والهدف المشترك، اذ يسود القانون بتوافر متطلبات الديمقراطية، ومعه يتحقق الهدف المراد و هو دولة العدل و القانون.

   ومن خلال هذه المعايير، تبرز لنا مظاهر العلاقة التكاملية بين مبدأ سيادة القانون والأمن القانوني والقضائي.

 

1-مظاهر العلاقة التكاملية : تبدو مظاهر العلاقة التكاملية القائمة بين مبدأ سيادة القانون و الأمن القانوني و القضائي، جلية من خلال معايير تقييم تلك المصطلحات القانونية. 16 وتكون هي القائمة المرجعية والأداة الفعالة في الإصلاحات التشريعية وتقاس بها أيضاً المساعي المبذولة من طرف الدولة حول الامتثال لسيادة القانون.

   أما فيما يخص مبدأ سيادة القانون بالجزائر، واستناداً إلى معاييره في النظم القانونية للدول المتقدمة ما يزال يحتاج إلى بيئة هادئة وبذل مجهود أكثر في سبيل بلوغ مؤشرات المقاييس العالمية، والجزائر تبذل ذلك وهذا جلي من دستور 2020، لأجل بناء دولة جديدة تُترجم فيها طموحات الشعب. 17

2-نتائج العلاقة التكاملية: العلاقة التكاملية القائمة بين المصطلحات القانونية؛ مبدأ سيادة القانون، الأمن القضائي والأمن القانوني تكون بتسليط الضوء فيما هو جديد ومكفول في الجزائر من خلال دستور 2020 والتي نوجزها فيما يلي:

- الدفع بعدم دستورية نصوص تشريعية بناء على الإحالة من المحكمة العليا أو مجلس الدولة عندما يدعي أحد الأطراف أن الحكم التشريعي أو التنظيمي والذي يتوقف عليه مآل النزاع ينتهك حقوقه وحرياته التي يضمنها الدستور. 18

- التقاضي مكفول وعلى درجتين. 19

- وضع منظومة معلوماتية مركزية لوزارة العدل واعتماد تقنية التصديق والتوقيع الإلكترونيين في المجال القضائي واستخدام تقنية المحادثة المرئية عن بعد في بعض الإجراءات القضائية منها ما تعلق بالتحقيق والمحاكمة بغرض السرعة، وكانت ناجعة لاسيما في جائحة كوفيد 19 والتي جاء بها القانون رقم 15-03 والمؤرخ في 01/02/2015 والمتعلق بعصرنة العدالة. 20

المحور الثاني: معوقات مبدأ سيادة القانون.

   الغاية من التشريع هو تحقيق التوازن على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي من خلال إصدار تشريعات توقعيه ومعيارية تكون مطابقة للدستور وللمواثيق الدولية. 21 تضطلع فيها السلطة التشريعية أساساً إلى وضع القوانين تكريساً لمبدأ الأمن القانوني من خلال مراعاة المتطلبات الشكلية والموضوعية، سواء في الصياغة وجودة التحرير أو مضمون النص. هذا من جهة ومن جهة اخرى ما يضطلع فيها القضاء الدستوري بوظيفة حماية الدستور عن طريق ممارسة الرقابة على دستورية القوانين وما يضطلع فيها القضاء العادي من وظيفة التطبيق والتنفيذ السليم للقوانين. 22

 

أولاً: المعوقات التي تعترض الأمن القانوني.

   يعترض مبدأ الأمن القانوني جملة من المعوقات التي يمكن أن تؤثر عليه، ومن بين المعوقات التي تعرقل تحقق الأمن القانوني نجد ظاهرة التضخم التشريعي واستعمال لغة غير دقيقة وغياب إعداد دراسة مسبقة والصياغة التشريعية المعيبة.

 

1-استعمال اللغة ذات التأويلات الكثيرة غير دقيقة: حسب الدارسين والمختصين في الشأن القانوني فان اللغة تمثل بالنسبة للتشريع وصياغة جوهره وأساسه، وتمثل اللغة كذلك وأساليب استخدامها أمر مهم لمن يقوم بالصياغة القانونية، ولذلك من الضروري مراعاة عدم الغموض والدقة والوضوح في اللغة، فلا تكون صياغة التشريع كنوع من الأدب. بل لها أسلوب خاص بها، فلغة التشريع كما بينها الفقيه عبد الرزاق الصنهوي يجب أن تكون واضحة ودقيقة، فاللغة المعقدة تجعل القانون مغلقاً، كما أن اللغة غير الدقيقة تجعل القانون مبهما، حيث يجب أن يكون للتشريع لغة فنية خاصة يكون كل لفظ فيها موزون المعنى، ولا يجوز أن يتغير معنى اللفظ الواحد باستعماله في عبارات مختلفة، فإذا عبر عن معنى بلفظ معين وجب أن لا يتغير اللفظ إذا أريد التعبير عن هذا المعنى مرة أخرى، ولا يتنافى أن تكون لغة التقنين بسيطة تنزل إلى مستوى فهم الجمهور. 23

   والأكثر خطورة على مبدأ الأمن القانوني هو تلك العبارات التي تخلق التباسا حول مضمون القاعدة القانونية، لاختلاف الأفراد في فهم معناها وبالتالي يكون الاختلاف حول الأحكام التي جاءت بها.

 

2-كثرة النصوص التشريعية و التعديلات المتكررة: ظاهرة تضخم التشريعات أدت إلى كثرة النصوص التشريعية المتشابهة وهذا ناتج لعدم تحديث النصوص التشريعية القديمة، 24 هذا من جهة و من جهة أخرى، الإصلاحات التي بادرت بها الجزائر دون رؤية واضحة في كافة القطاعات، يجعل من الجهود المبذولة و التي غالبا ما تكون في شكل إصدار نصوص قانونية مصدراً حقيقياً لعدم الأمن القانوني بسبب كثرة التعديلات و الإلغاءات المتتالية، 25 و من الأمثلة العملية لعدم الاستقرار التشريعي في مجال الاستثمار، التعديلات المتكررة التي لحقت بالنظام القانوني للعقار الصناعي و أين صدر أمر رقم 06-11 و المؤرخ في 30-08-2006، 26 الذي يحدد شروط و كيفية منح الامتياز والتنازل عن الأراضي التابعة للأملاك الخاصة للدولة و الموجهة لإنجاز مشاريع استثمارية و فيه تم تحديد مدة الامتياز بعشرين (20) سنة على الأقل و قابلة للتجديد ثم بعدها تم التراجع عن هذا النظام القانوني و أين صدر أمر بتاريخ 08-04 و المؤرخ في 01-09-2008، 27 والذي ألغى الأمر 06-11 و بموجبه تم تغيير مدة عقد الامتياز إلى 33 سنة على الأقل و 99 سنة على الأكثر، وبناء على المعطيات الجديدة التي جاء بها القانون الجديد تكون الدراسة الاقتصادية و القانونية للمشاريع الاستثمارية مختلفة عن سابقاتها في ظل القانون القديم، بالرغم أن المدة الزمنية بينهما قصيرة جداً حوالي سنتين، و هذا الاختلال في ضمانات الأمن القانوني يزيد من مخاطر اتخاذ القرار الاستثماري في الجزائر. 28

    ولابد من إيجاد هيئات متخصصة في بناء قواعد قانونية في كافة المراحل التي تحتاجها العملية التشريعية وأن لا تخضع للمؤثرات السياسية، إذ يُعهد في كل هيئة أو قطاع حكومي لجان تدعم بكوادر بشرية ذات مستوى عالي لإنجاز و إعداد النصوص القانونية بما يضمن الإسهام في بناء نظام قانوني لأي قطاع في الدولة بصورته المرغوبة و انسجامه مع القوانين السابقة وتراعي المبادئ الدستورية و الحرص على تفادي الأخطاء المادية في الترجمة.

 

ثانياً: المعوقات التي تعترض الأمن القضائي.

   من أسس ومبادئ دولة العدل والقانون هو التقيد بمبدأ الشرعية الذي يقتضي استقلالية القضاء، واخضاع الجميع لسلطة القضاء.

1-لقيود الضابطة لممارسة الاجتهاد القضائي: ان نشر الاجتهاد القضائي يعد أحد أبرز ضوابط ممارسته، باعتبار أنه يساهم في توسيع دائرة الوعي القانوني واستقرار المراكز القانونية من جهة، وتوحيد الاجتهاد القضائي من جهة أخرى، على نحو يمنح الراحة والطمأنينة في نفوس الأفراد والمتقاضين، ومدخل لتوطيد الأمن القضائي داخل الدولة.

 

   صحيح أن قاعدة عدم رجعية القوانين من أهم القواعد أو المبادئ القانونية في دولة القانون، ومن أهم نتائج مبدأ الشرعية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى ضمان حماية حقوق الأفراد وحرياتهم ومراكزهم القانونية. لكن العكس فإن الاجتهاد القضائي هو رجعي بطبيعته لأن تفسير القانون هو وظيفة القضاء، وأن تغيير الاجتهاد القضائي هو بمثابة تغيير للقانون يجري تطبيقه على كل النزاعات القائمة، غير أن ذلك قد يشكل تهديداً وخطرا على الأمن القضائي، لأن الاجتهاد القضائي سيطبق على كل الخصومات والنزاعات دون مراعاة لتاريخ الوقائع وهذا المبدأ يؤثر على مبدأ الثقة المشروعة والاطمئنان لأحكام القضاء. 29

   لكن الإشكال المطروح هو تأثير عدم استقرار الاجتهاد القضائي على مبدأ العدالة واستقرار المراكز القانونية للأفراد، فبطبيعة الحالة أن هذه الرجعية ستشكل تهديداً لمبدأ الأمن القضائي، الذي يعتبر وجها من أوجه استقرار الأمن القضائي، ولهذا يبقى واقع الاجتهاد القضائي الجزائري كما أشار له الأستاذ بوبشير محند أمقران مشوشاً ومتذبذبا  في إجماله و متضارب في أحكامه، و إن لم يكن متضاربا لم يطبق ويكرس في لاحق النزاعات المشابهة. 30

2-أثر ممارسة الاجتهاد القضائي في خدمة العدالة وتجسيد دولة القانون: يتميز الاجتهاد القضائي بكونه ضامن لاستمرارية القواعد التشريعية، من خلال ملائمتها مع الوقائع و النوازل، فالتشريع بما يتميز به من عمومية وتجريد فهو لا يخصص حلول فردية لكل النزاعات، وهذا ما يجعل من الاجتهاد القضائي مصدراً مستقلاً يتساوى مع باقي مصادر القانون، نظير تخصيصه للقاعدة القانونية و تحيينها، فبدونه يستحيل أن يتمكن التشريع من التوفيق بين خاصية الاستقرار و الإستمرارية.31

رغم الأهمية التي يتصف بها الاجتهاد القضائي، باعتباره يسد النقص ويصحح الغموض الذي يكتنف التشريع أو القاعدة القانونية، إلا أنه قد يشكل خطرا على الأمن القضائي مما يؤدي إلى المساس باستقرار المعاملات والمساس بالمراكز القانونية، و في ذلك مساس بمبدأ العدالة بين الأفراد و المتقاضين، كيف و جل والتشريعات تسعى بشكل أو بآخر إلى تكريس آليات أساسية يمكن من خلالها تجسيد الأمن القضائي بشكل فعلي.32

   للاجتهاد القضائي دور بارز في تفسير غموض نص القانون، باعتباره آلية يساهم من خلالها القاضي في رفع اللبس و الغموض الذي يكتنف نص القانون، باعتباره آلية يساهم من خلالها القاضي في رفع اللبس و الغموض الذي يكتنف نص القانون، ويسعى من خلالها إلى الاجتهاد وتقديم حلول قانونية فعالة وعادلة في آن واحد، و هو حقيقة ما يجعل مهمة التفسير صعبة للغاية، لأن التفسير عمل يسبق التطبيق وعليه يعتذر تطبيق القاعدة القانونية قبل تفسيرها خاصة إذا كانت ذات مدلول غامض من الصعب الاهتداء إليه، ما من شأنه أن يحدث خللا بمبدأ العدالة بين المتقاضين.33

 خاتمة:

   في الختام يمكن استخلاص أن هناك علاقة توافقية بين مبدأ سيادة القانون وتكاملية الأمن القانوني مع الأمن القضائي في سبيل تحقيق دولة العدل والقانون. فمتى تم بسط سيادة القانون يكون قد تحقق الأمن القانوني من خلال النصوص التشريعية التي تصدر عن هيئات شرعية دستورية ويتبعها الأمن القضائي من خلال ما يصدر عن المؤسسات القضائية من أعمال قضائية وأحكام وقرارات والتي تعتبر بمثابة عنوان الحقيقة والإنصاف، وتلك هي السمات البارزة التي تتميز بها العلاقة القائمة بين تلك المصطلحات القانونية.

   فمهمة تحقيق الأمن القضائي منوطة بجهاز القضاء بمختلف درجاته واختصاصاته، فهو الذي يعكس ثقة المواطن في السلطة القضائية، لكن هذا لا يتحقق إلا في ظل وجود جملة من الضمانات والمقومات، يقع على عاتق الدولة تحقيقها لتضمن تحقيق الأمن القضائي ًالذي يعتبر تحقيقا لسيادة القانون للإسهام في التنمية الاقتصادية والسلم الاجتماعي، وتتمثل تلك الضمانات والمقومات، فيما يلي:

-استقلال القضاء الذي يجعل القاضي حرا في البحث عن الحقيقة، فالقاضي يجب أن يكون مستقلاً في حكمه وفي ممارسة سلطته عن باقي السلطات، وذلك بترسيخ مبدأ الفصل بين السلطات.

-المساءلة أمام القانون تقتضي خضوع الحاكم والمحكوم للقانون معا، فالحصانة التي يتمتع بها بعض أفراد الحكومة والسلطة التشريعية تحول دون بسط سيادة القانون.

-العمل على توحيد الاجتهاد القضائي واستقراره لما له من تأثير مباشر على الأمن القانوني.

-الاهتمام أكثر بمبدأ الأمن القضائي وكل ما يطرحه من مفاهيم وتصورات لتعزيز الأمن القانوني بشكل أكبر.

 

الهوامش:

1-م. م. محمد سالم كريم، دور القضاء الدستوري في تحقيق مبدأ الأمن القانوني، جامعة القادسية، مجلة القادسية للقانون والعلوم السياسية، العدد الثاني، المجلد الثامن، كانون الأول 2017، صفحة 218، صفحة 220.

2-م.م.محمد سالم كريم، "دور القضاء الدستوري في تحقيق مبدأ الأمن القانوني "، مرجع سابق، صفحة 221.

3- محمد بوكماش، خلود كلاش، مبدأ الأمن القانوني و مدى تكريسه في القضاء الإداري، مجلة البحوث والدراسات، العدد 24، 2017، صفحة 140.

4-Conseil d'État, Sécurité juridique complexité du droit, Rapport public, Études et documents du Conseil d'État n°57, La documentation française, 2006,page 281.

5-الفقرة 14 من ديباجة دستور 2020.

6- بلحمزى فهيمة، الأمن القانوني للحقوق و الحريات الدستورية، دكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر،صفحة 76.

7- رمسيس بهنام، علم النفس القضائي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1979، صفحة 30.

8-عبد المجيد لخداري و فاطمة بن جدو، "الأمن القضائي و الأمن القانوني-علاقة تكامل-"، مجلة الشهاب، جامعة الوادي، المجلد 4، العدد2، صفحة 393.

9-غلاي محمد، مقالة بعنوان"معوقات تحقيق الأمن القضائي" مجلة العلوم السياسية و القانونية، المركز الديمقراطي بألمانيا، العدد 15 ،المجلد 03، ماي 2019،صفحة 196.

10-Oxford English Dictionary online, the phrase "the rule of law" is also sometimes used in other senses, see Garner, Bryan A. black's Law Dictionary, 9th Edition, p. 1448.

11-سيادة القانون على الصعيدين الوطني و الدولي،و تقرير الإبراهيمي؛ استعراض شامل لكل عمليات حفظ السلام من جميع نواحي هذه العمليات، صفحة 5.

12-المادة 37 من دستور 2020.

13-المادة 78 من دستور 2020.

14-المادة 163 فقرة 2 من دستور 2020.

15- المادة 16، 163 فقرة 1 من دستور 2020.

16-عبد المجيد لخضاري، بن جدو فطيمة، مقالة بعنوان"الأمن القانوني و الأمن القضائي-علاقة تكامل-" مرجع سابق،صفحة 387.

17-بهلول خالد، حميدة نادية، مقالة بعنوان "الأمن القضائي و سيادة القانون -الجزائر نموذجاً-" مجلة العلوم السياسية والقانون، العدد29، مجلد 05، سبتمبر 2021، صفحة 330.

18-المادة 195 من دستور 2020.

19-المادة 165من دستور 2020، والمادة 249 من قانون الإجراءات الجزائية.

20-بهلول خالد، حميدة نادية، مرجع سابق، صفحة 331.

21-الهواري عامر ،العيد هدفي، مقالة بعنوان "التكريس الدستوري لمبدأ الأمن القانوني ضمانة لتجسيد دولة القانون الحديثة في الجزائر"،مجلة مدارات سياسية، مركز المدار المعرفي للأبحاث و الدراسات، الجزائر، المجلد 05، العدد 01، جوان 2021،صفحة 142.

22-الهواري عامر، العيد هدفي، مرجع سابق، صفحة 143.

23-محيي محمد مسعد، دور القانون في تكوين ثقافة الإنسان، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 2004، صفحة 102.

24-هناك بعض القوانين تعود إلى السبعينات من القرن الماضي ما تزال سارية المفعول و لم تحين بعد و ما يزال القضاء يقوم بتطبيقها .

25-شول بن شهرة، آيت عودية بلخير محمد، مقالة بعنوان "الأمن القانوني كقيمة جاذبة للإستثمار الأجنبي في الجزائر" مجلة دراسات في الوظيفة العامة، المركز الجامعي بالبيض، الجزائر، المجلد 03،العدد 02، صفحة 11.

26-الجريدة الرسمية الجزائرية، العدد 53،المؤرخة في 30-08-2006.

27-الجريدة الرسمية الجزائرية، العدد 49،المؤرخة في 03-09-2008.

28-شول بن شهرة، آيت عودية بلخير محمد، المرجع السابق، صفحة 06.

29-غلاي محمد،"معوقات تحقيق الأمن القضائي"،مرجع سابق، صفحة 228.

30-بوبشير محند أمقران، "تغيير الإجتهاد القضائي بين النص والتطبيق"،الملتقى الوطني السادس حول"الإجتهاد القضائي للمحكمة العليا في قضايا شؤون الأسرة"،كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي، يومي 29-30 أفريل 2013 ،صفحة 17.

31-عبد النباوي محمد، "تعميم الإجتهاد القضائي - مساهمة في خدمة العدالة -"، مجلة سلسلة الإجتهاد القضائي، العدد01، المغرب، صفحة 43.

32-علاء الدين قليل، "الإجتهاد القضائي و الأمن القضائي -بين متطلبات تكريس العدالة و مقتضيات إرساء الأمن القضائي-"،مجلة الإجتهاد القضائي، المجلد13، العدد02، أكتوبر 2021،صفحة 317.

33-علاء الدين قليل، "الإجتهاد القضائي و الأمن القضائي-بين متطلبات العدالة ومقتضيات إرساء الأمن القضائي-"،مرجع سابق، صفحة 317.



إحذر إنتهاك حقوق الملكية الفكرية المضمنة في هذا الموقع, تحت طائلة إتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة.